قال: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء) فهل هذه العبارة صحيحة ومتفقة مع ما قررناه من عقيدة
أهل السنة والجماعة في موضوع الإيمان وحقيقته أم أن الأمر غير ذلك؟ بعد أن ذكر الشيخ مذهب
الكرامية و
الجهمية ، والاختلاف بين
أبي حنيفة والأئمة الباقين قال في بداية هذه الفقرة: (ولهذا والله أعلم -قال الشيخ رحمه الله: وأهله في أصله سواء) وقبل ذلك قال: (وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله مستحق الوعيد)، وكلامه هذا هو ما جرى بين
أهل السنة وبين
أبي حنيفة والأئمة الباقين من خلاف، ثم قال: (ولا خلاف بين
أهل السنة أن الله أراد من العباد القول والعمل).فقوله: (وقد أجمعوا) يعني به
أهل السنة ، وعلى كلامهم يكون
أهل السنة مرجئتهم وغير مرجئتهم على أساس أن الإمام
أبا حنيفة ومن معه هم
مرجئة أهل السنة ، وليسوا من
المرجئة الغلاة ، أي: أن
أهل السنة ومنهم
المرجئة و
أهل الحديث أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، ولكنه لم يعمل بجوارحه: أنه عاص مستحق للوعيد، وبينا أن الأئمة الأربعة كلهم بما أنهم فقهاء وقضاة، بل كان أكثر القضاة في أيام الدولة العباسية -وهي أطول فترة في تاريخ الإسلام، ثم جاءت بعدهم الدولة العثمانية- حنفية، فهل كانوا يتركون الزاني والشارب والسارق أم يقيمون عليه الحد؟ يقيمون عليه الحد؛ لأنهم فقهاء يفتون بأنه عاص مستحق للعقوبة، وقضاة يحكمون عليه فيعاقب، إذاً الأئمة الثلاثة وعامة أهل الحديث مجمعون مع
أهل السنة على أن تارك العمل مستحق للوعيد، وهذا قدر مشترك بينهم، لكن الخلاف فيمن يقول: (إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً، فإيماني كإيمان
أبي بكر الصديق و
عمر رضي الله تعالى عنهما!وبالتالي لا يكون الناس في أصل التصديق سواء، هذا قول بعض
المرجئة الحنفية وليس كلهم، لكن يقال: قولهم هذا على سبيل التغليب؛ لأن من لم يقل بقولهم غالباً يعد من
أهل السنة، يقول: (فإيماني كإيمان
أبي بكر و
عمر رضي الله عنهما، بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبريل وميكائيل عليهم السلام، وهذا غلو منه)، أي: لا يجوز لأحد أن يقول: إن إيماني كإيمان جبريل أو كإيمان
أبي بكر و
عمر ! ويعني به أصل التصديق عند العبد، أي: يقول: أعمالي ليست كأعمال
أبي بكر و
عمر ، حتى الإيمان الذي عند أي شخص آخر مقر ومصدق، إذ ليسوا فيه سواء، وهنا الشارح أتى بدليل عقلي: وهو أن الكفر مع الإيمان مثل العمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين دون الرفيع إلا بزجاجة ونحوها، فالناس كلهم مبصرون، والمقصود بالأعمى: الكافر: ((
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ))[الإسراء:72] فتنظر إلى المبصرين، فالبصر الحسي المشاهد أن الناس فيه درجات، أي: يتفاوتون فيه، لكن ليسوا عمياناً، وبالتالي فالتفاوت حاصل في النظر المشاهد، فهذا مَثَلٌ لتفاوت الناس في الإيمان أيضاً؛ لأن الإيمان هو النور والكفر هو الظلمات، ولهذا ضرب الله المثل لنوره في قلب عبده المؤمن فقال: ((
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ))[النور:35]، وقال في آخر الآيات: ((
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ))[النور:40]، فهؤلاء في الظلمات ليسوا بخارجين منها، وهذا مَثَلُ الكفار، وهذه هي القضية الفلسفية التي بسببها أخطأ
الحنفية المرجئة والفقهاء، إذ يقولون: أصل البصر واحد يتفق فيه الناس، لكن بعضهم نظره أقوى من بعض، أي: هناك قدر مشترك ونسبة بسيطة يشتركون فيها كلهم، فالذي هو أدنى قدر من الإبصار يتفق فيه الجميع، وما زاد على ذلك يتفاوت فيه الجميع، وهذا في الواقع، فهل يسلم أحد بذلك؟ لو أن شخصاً نظره كامل يرى الإبرة في مكان بعيد، ووجد إنساناً لا يرى إلا من خلف الزجاجة، فقال صاحب الزجاجة للآخر: أنا وأنت في أصل النظر سواء، لكن أنت زائد علي بزيادة أخرى في الفروع، أي: أنا وأنت نختلف، والمبصرون وكل أهل النظر يتفاوتون، وهذا هو الكلام الصحيح، فمن أين جاء الخطأ؟ إنهم حينما جعلوا الإيمان أجزاء وليس حقيقة واحدة أو شيئاً واحداً تصوروا أن يوجد جزء بالكامل مع وجود شيء قليل من الجزء الآخر، يعني: الجزء الأول يوجد كاملاً، والجزء الثاني يوجد قليلاً عند البعض كثيراً عند البعض، مع أن الأمر غير ذلك، إذ إنه حقيقة واحدة أو ماهية واحدة بتعبير
المناطقة ، فهم يقولون: وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالحقيقة أو في الخشية والتقى، فهل نعتبر أن الحقيقة أو الخشية فرعاً؛ لأن لازم كلمة (أصل) يكون الباقي فرع؟ أو هل يصح أن نقول: الناس في أصل الإيمان سواء، لكن فروع الإيمان تختلف؟ لو ضربنا مثالاً للشجرة فقلنا: لو وجدنا شجراً متساوياً في مكان واحد، في تربة واحدة، ويسقى بماء واحد، وهذا هو الأصل أن الناس يأخذون من القرآن ومن السنة كل شيء، فما الذي يحصل؟ ينمو الشجر، فهل يمكن أن تنمو شجرة بحيث تكون الجذوع كلها متساوية وبعض فروعها كبيرة والأخرى صغيرة أم أنه بقدر نماء الأصل تكبر الفروع؟ إن هذا أمر حسي مشاهد، فبقدر نماء الجذع يكون نماء الفروع، وهذا هو التناسب، وهذا الذي ذكره الله عز وجل فقال: ((
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ))[إبراهيم:24] فالإيمان كهذه الشجرة، أي: شجرة لا إله إلا الله، والجذور كلما كانت أقوى وكلما ارتوت من الماء كلما ظهر ذلك على الجذع، وكلما قوي الجذع وكبر كلما قويت الأغصان الفرعية، وكلما قويت وكثرت الأغصان كلما كان الثمر والجني أكثر، وهذا أمر معروف ومشاهد ومحسوس في جميع الأشجار، أما أن يدعي مدع أن لديه شجرة لها أصول كثيرة تحت الأرض، ثم يكون البارز فوق الأرض غصناً صغيراً! فإننا نقول: هذا غير معقول، ولا يمكن إلا إذا كان واحد قطعها، ونحن لا نتكلم عن حالة عارضة، وإنما نتكلم عن الحالة السوية الأصلية، إذ لا يمكن أن تكون سواء إلا إذا اقتلعنا هذه فوجدنا جذورها ضعيفة على قدرها، وتلك جذورها عميقة على قدرها، وقلنا: أوضح من ذلك: مثال السفينة، فلكي تسير في الماء لابد أن يكون أصلها أسفل والباقي فوق، فهل يعقل أن يقول شخص، إن أصل السفن واحد، والتفاضل بينهما بما فوق أم أنه بمقدار حجمها وسعتها يكون أصلها أيضاً؟ إذا كان الأصل كبيراً وطويلاً وعريضاً، فكذلك ما فوقه وهكذا، فإذاً هي سفينة واحدة لو أخرجتها من الماء فإن أصلها وفرعها سواء، ولو تصورت أن أصلها كأصل سفينة كبيرة، ولا يوجد إلا قارب صغير في الأعلى، لكنت مخطئاً، ولما كانت هذه هي حقيقة السفينة، وهي جزء واحد الظاهر منه والباطن، فالأصل أن ما في القلب كله واحد، والخطأ يكون واضحاً عندما نقول: إن أصل الإيمان واحد ونعني به عملاً واحداً، فيكون خطئاً مركباً أنهم يعنون به عملاً واحداً من أعمال الإيمان الباطنة وهو التصديق، بينما نحن قررنا: أن أعمال القلب والأعمال الباطنة كثيرة، مثل: الحب والخوف والرجاء والإخلاص والصبر واليقين، فلماذا التصديق وحده إذاً؟ كل هذه الأعمال متلازمة وشيء واحد، أو ماهية واحدة بالنسبة إلى كل إنسان، إذ إن كل إنسان إيمانه بالنسبة له شيء واحد، فبقدر قوته يقوى ظاهراً وباطناً، أصلاً وفرعاً، بغض النظر عن قضية ما معنى الأصل وما معنى الفرع؟ فهذه قضية فيها خلاف طويل، لكن المهم أنه يقوى أعلاه وأسفلاه وظاهره وباطنه، إما أن يقوى جميعه، وإما أن يضعف جميعه، وليس هنالك جزء منفصل يسمى الإيمان الباطن، ثم هناك جزء منفصل يسمى العمل الظاهر، ولذلك قلنا في بداية شرح موضوع الإيمان عند قولنا: (إن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان): أيهما أفضل: هذه العبارة أم قول: الإيمان قول وعمل؟ قول وعمل؛ لأن العبارة الثلاثية توهم الانفصال، فقول باللسان هو مجرد النطق بالشهادة، واعتقاد بالجنان هو عمل القلب، وعمل بالأركان هو عمل الجوارح، وكأنه يمكن أن تنفصل، فمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه فقد أتى بثلث الإيمان، ولا يمكن الإتيان ثلثه إلا ممن كان مقراً مصدقاً بقلبه، وأيضاً عاملاً بجوارحه، ولو أن أحداً عمل بجوارحه لكنه لم يؤمن بقلبه فلا ينفعه، إذ إنها متلازمة، فأفضل شيء أن نقول: قول وعمل، ونعني بالقول قولان: قول القلب، وقول اللسان، والعمل عملان: عمل القلب، وعمل الجوارح، فبذلك يكون التركيب، فكل عمل من الأعمال يتركب من هذه الحقيقة.